قال أحد الحكماء مُلخصاً حياتنا: (البشر يُولدون يتألمون ثم يموتون)، كانت حكمة بالغة تختصر كل ما نمر به؛ ثم جاء الكاتب الساخر مارك توين وأضاف تعديل أعمق لتصبح: (البشر يُولدون يُؤلم بعضهم بعضاً ثم يموتون).
قال أحد الحكماء مُلخصاً حياتنا: (البشر يُولدون يتألمون ثم يموتون)، كانت حكمة بالغة تختصر كل ما نمر به؛ ثم جاء الكاتب الساخر مارك توين وأضاف تعديل أعمق لتصبح: (البشر يُولدون يُؤلم بعضهم بعضاً ثم يموتون).
الكثير من الجراح والآلام نتسبب بها لبعضنا البعض، والكثير من الفساد والمصائب نصنعه في أنفسنا وبمن حولنا، لكن هذا لا يعني أن حقيقتنا يغلب فيها الشر على الخير.
فنحن كبشر لسنا مجرمين بالفطرة، بل نحن ضعفاء وأغبياء أكثر من كوننا أشرار، وكثير من الجراح التي نُسببها لبعضنا البعض لم تَكُن بسبب الشر بل أغلبها كان بسبب الضعف والغباء والعجز.
الكثير من سوء أفعالنا تجاه بعضنا كان سببه ضيق المكان وعسر الحال الذي قصم ظهورنا، فعجزنا عن السيطرة على أنفسنا لنصطدم ببعضنا البعض بقسوة في تراجيديا متتابعة ومتسلسلة.
الغباء وقلة المعرفة لهما دور كبير في جعلنا حمقى نتخلى عن أغلى ما نملك بسبب مغالطات وجهل متراكم داخلنا.. ولكم نحن مثيرون للشفقة حين نفعل ذلك!.. نعم مثيرون للشفقة أكثر مناسبة من كوننا مثيرون للاشمئزاز والسخط.
جوهر المشكلة يكمن في أننا لا نعلم، هناك أستار تَحجُب حياة كل واحد منا عن الآخر، إضافة إلى أن غالبية الناس لا تُحسِن التعبير عن ما تَشعُر وما تُفِكر، لذا فكيف سنفهم ما وراء تصرفاتهم، إنها دائرة مفرغة من الإساءات والضباب والزحام وردود الأفعال العشوائية التي نعيشها يوماً بعد يوم للأسف.
لذا، هون عليك ولا داعي للتحامل كثيراً على من أخطأ بحقك، فأنت أيضاً لم تقصد كثير من الإساءات والألم الذي سببته للآخرين.. أليس كذلك؟
قد يتبادر إلى ذهنك السؤال التالي: (هل هناك طغيان وشر مقصود؟).. نعم بالتأكيد يوجد؛ لكن نسبته ضئيلة جدا، ولعل هذا سبب شعور الجميع بالحزن والظلم فهم (بطريقة ما) مجرد ضحايا.
تزوجت لبيتٍ ثري.. زوجها الشاب لم يمكث طويلاً معها، وسافر للغربة اللعينة، طفلها كبر مع أولاد أعمامه في البيت الكبير للعائلة.. لاحظت أمور مريبة بين الأطفال ومراهقي العائلة لكنها أخبرت نفسها أن ابنها سيكون بخير لو كثفت الرقابة عليه وتابعت تربيته بشكل جيد، لكن مع كبر الطفل صار من الصعب متابعته بكل مكان.
جاهدت كثيراً لكن أسوأ مخاوفها حدث، ووجدت ولدها مع عمه الطائش في وضعية سيئة، جنَّ جنونها لكنها أخفت مشاعرها الساخطة، فقد رأت ما حصل لغيرها حين أثارت نفس الموضوع عن أحد أطفالها، لقد هوجمت بقسوة وتم تكذيبها وتعرض طفلها للتشهير، كما أن الفاعل المنحرف لم يحصل له شيء سوى بعض الكلمات الجوفاء التي لم تزده إلا انحرافاً وجرأة. زوجها لن يفعل شيء فهو غائب ولن يصدق على أهله، زاد اشتعالها ما كان يقوله طفلها لها عما عرضه الآخرون عليه من صور وأفلام سيئة لم يفهمها لكنها علقت داخله.
قررت أن تتصرف مهما كان الثمن.. أمها المريضة فقيرة جداً لتتحمل مسألة طلاقها فأختها الأرملة بعد موت زوجها تكفي كحمل يقصم الظهر مع أطفالها.. لكن هناك طريقة أخرى.. اتفقت مع أختها أن تتقرب لصغيرها وأن تغدق عليه الحنان بينما هي بدأت بهجره، الطفل لم يكن متعلق بالبقية لذا فقد اندفع لحضن خالته بعد أن فقد أمه، مع الوقت زادت رغبة الطفل بملازمة خالته التي كانت تعطيه ما لا يعطيه الآخرون، صار لا يغادر بيت جدته لأمه ولا يصغي لأحد إلا لخالته، هناك وجد بيت دافئ وآمن.. بينما كانت أمه تختلس له ما تقدر من المصاريف والحاجيات حتى لا يحتاج لشيء.
حاولت عائلة الأب فصل الأمر بقوة، لكن الأم كانت تخبرهم أنه مازال صغيراً ولا بأس أن يتركوه قليلاً، في الحقيقة لم يكونوا مهتمين كثيراً فأمه نفسها تبدو غير مبالية، لذا تركوا الأمر وانشغلوا كحال العائلات المفككة، نجحت خطة الأم ويا له من نجاح قاسٍ!!
زال الخطر، لكن الابن المبعد لم يعد فلقد صدق أن أمه تخلت عنه، كرهها ولم يعد يريد سماع أي شيء عنها، لقد عاش في مستوى مختلف وعانى حياة وحيدة، لذا لم يعد يريد الالتفات.
كل محاولات أمه للتقرب منه تزيده نفوراً وسخطاً، وكل مظاهر الثراء لأبيه وإخوته تؤجج حنقه، هو لا يعلم ولم يستطع أحد إخباره، الأم كتمت قهرها وكرست جهودها لتقرب بين أبناءها وأخيهم، الابن المنبوذ كرس حياته ليبتعد عنها ويُثبِت أنهُ أفضل من دونها ومن عائلة أبيه المقصر.
إنها حلقة مغلقة من ردود الأفعال المؤلمة التي يصعب الحكم فيها على من يرتكز الخطأ، فالكل له زاوية تجعله المظلوم.
صدق القائل: (ثلث الحكمة تغافر وثلثيها تغافل)، فنحن لا يمكننا الإحاطة بكل شيء ولا فهم كل تصرف، ولكي نستمر بالحياة لابد أن نعفو ونغض الطرف وأن نردد: (لعل.. ربما.. عسى)، ونتابع العيش معاً، في النهاية لا يمكننا الاستمرار في تقطيع علاقاتنا وأرحامنا لأجل أمور لن تعود ولن تزول.
التغافر والتغاضي سيسمح لنا بسماع بعضنا وربما تَفَهم مواقفنا بعيداً عن سوء الفهم وأنصاف الحقائق.. وربما ميلاد الحب والود بيننا..
ربما.. من يدري..