جاء ذكر الزكاة في اثنين وثلاثين موضعا في القرآن الكريم، اقترنت فيها مع الصلاة في سبع وعشرين موضعا، “أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”. والزكاة هي إحدى الشعائر التعبدية الأربع في الإسلام. جاء ذكر الزكاة في اثنين وثلاثين موضعا في القرآن الكريم، اقترنت فيها مع الصلاة في سبع وعشرين موضعا، “أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”. والزكاة هي إحدى الشعائر التعبدية الأربع في الإسلام، الصلاة والزكاة والصوم والحج، وارتباطها بالصلاة -التي هي الركن الأول للشعائر- بشكل شبه دائم في الآيات يدل على أهميتها وتشابهها مع الصلاة في كونها عبادة مستمرة طوال العام، بعكس الصيام السنوي والحج العمري اللذان جاءا منفردين، وكان حث الآيات فيهما مناسبا لذلك، ولما صار الناس يظنون -بحسب التراث الفقهي- أن الزكاة عبادة سنوية كالصيام كان هذا المقال الذي سيبين أن الزكاة عبادة مستمرة طوال العام.
إذا كانت الصلاة هي العبادة اللازمة المستمرة التي تربط وتصل علاقة الإنسان بربه فإن الزكاة هي العبادة المتعدية المستمرة التي تربط الإنسان بمجتمعه والناس من حوله، فيكون المسلم متنقلا طوال عمره بين عبادة لازمة هي حق الله الخالص وعبادة متعدية هي حق الناس وحق الله أيضا، فلا ينسى حق الله ولا ينسى حق الناس.
والسؤال المنسي في قضية الزكاة هو: هل يمكن أن يكون ذلك الخطاب المتكرر للزكاة واقترانها بالصلاة خاصا بإنفاق المال فقط؟ إن كان كذلك فكيف سيزكي الفقير والمسكين اللذان لا يمتلكا مالا؟ وهل سيبقيا طوال عمرهما دون أن يؤتيا الزكاة؟ وكيف ستكون الزكاة كالصلاة شعيرة وركنا واجبا على كل مؤمن؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه.
إن المتأمل في الآيات التي أمرت بإيتاء الزكاة سيجد أنها أشمل وأعم من تلك الآيات التي حثت على الإنفاق، إذ التوجيه في الزكاة خطاب لكل مسلم فقيرا كان أم غنيا، أما خطاب الإنفاق فإنه لكل من لديه المال فقط، وهذا يدل على أن الانفاق هو أحد أنواع الزكاة لا كلها، إذ الزكاة هي تزكية النفس، والتزكية تتحقق حين تقدم تلك النفس عطاء للآخرين بلا مقابل مادي وإنما هو لوجه الله، والنفس تعطي مما أعطاها الله، وعطاء الله من النعم والمواهب متنوع ومتعدد، وكل إنسان لا يخلو من نعمة أو موهبة أو خبرة يستطيع بها خدمة أو مساعدة من حوله، وبهذا تكون الزكاة من جنس ما أنعم الله به على الإنسان وأعطاه من مواهب أو ما اكتسب من خبرات في الحياة، فيعطي الآخرين تطوعا منه بلا مقابل كي يزكي نفسه، فبالعطاء تزداد الرحمة بداخله ويمنح الحب لمن حوله، وتلك هي خلاصة الإنسانية، إن حرص عليها زادت إنسانيته واستمرت، وإن لم يكن فإنها تتناقص ويفقدها مع السنين.
فالعامل البسيط يمكن أن يزكي بعمله لمساعدة الآخرين المحتاجين في فترات ما طوال العام، والفني يمكن أن يصلح للفقراء ما احتاجوه في فترات ما طوال العام، وصاحب السيارة يحمل الناس عليها ممن يحتاجون لذلك، والتاجر يعطي مما أعطاه الله من مال، وهكذا المحامي والمهندس والطبيب …الخ، فيكون المجتمع كله مزكيا عن نفسه في كل المجالات، ومغطيا كل الاحتياجات، ولا يوجد مجال إلا ونستطيع أن نخدم المجتمع فيه أو نخدم الفقراء والمساكين وذوي الاحتياج، وأعمال التطوع كثيرة جدا، ولربما لأن المال صار بإمكانه سد كل حاجة عند الناس اشتهر وصار بديلا لكل فعل تطوعي، إلا أن ذلك -برأيي- لا يكفي، فالإنسان الذي يخدم مجتمعه في حرفته يجد ذلك بسيطا عليه ويستطيع الاستمرار عليه طوال العام.
إن هذا يعني ببساطة أن كل فرد عليه أن يقوم بعمل تطوعي أو يشترك في عمل تطوعي من جنس ما يعمله كي يزكي نفسه، وبهذا تكون الزكاة كالصلاة عبادة مستمرة متكررة من الفرد طوال العام وليست مخصوصة بيوم واحد في العام كما انتشر بين الناس حين حصروها في الانفاق فقط. إذ الانفاق خاص بمن لديه المال الذي يزيد عن حاجته فينفق منه.
ولعل ذلك الفهم القاصر في حصر الزكاة في إنفاق المال قد جاء عبر دول حكمت -في تاريخنا- وركزت فقط على المال كونه سيجمع إلى أيدي حكامها مباشرة فيحقق ما يبقيهم على رأس السلطة، مغفلين بذلك تزكية النفس في مجالات أخرى.
بالتأمل في آيات القرآن التي حثت على الإنفاق نجد أن الحث عليه كان كثيرا وهذا يعني أنه العنصر الأول في تحقيق مقاصد الزكاة ذلك أنه بجمعه إلى سلطة واحدة -هي سلطة ولي الأمر الذي اختاره الناس والذي يدير أمرهم بالشورى لا بالاستبداد- ليتوزع بشكل منظم ومرتب على احتياجات المجتمع ومحتاجيه، فيكون التوزيع عادلا وشاملا يعطي كل ذي حق حقه، ويحقق مجتمعا متوازنا لا يكون المال فيه دولة بين الأغنياء فقط، بعكس ما لو كان توزيعها عائدا إلى اجتهاد كل فرد بنفسه فيوزع الكثير في مكان والقليل في مكان آخر وربما تكون هناك أماكن محتاجة لم يصلها شيء.
إلا أن استبداد الحكام والذي اقترن بفسادهم في بلادنا العربية طوال العقود الماضية جعل التجار في خوف من دفع تلك الأموال إليهم خوفا من عدم تقسيمها لمستحقيها ونهبها فلا تحقق غايتها ومقصدها في المجتمع ويكون غير متحقق في تزكية نفسه، لذا صار بعضهم أو أكثرهم يوزعها بطريقته الخاصة، وهذا لا يحقق مقصودها تماما كما ذكرت سابقا وإنما سيحقق بعض مقصودها أو أكثره، من باب جلب أكبر المصلحتين أو درء أكبر المفسدتين.
أما السؤال حول ماذا ينفقون؟ فقد أجابت عليه الآية في قولة تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} البقرة: 219. فبعد أن جاءت الآيات بالحث على الإنفاق والترغيب فيه، لسد حاجات الفقراء والمساكين وغيرهم ممن يحتاجون إلى الإنفاق، جاء السؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، فكانت الإجابة “العفو” أي أنفقوا العفو.
وأصل العفو في اللغة الزيادة، يقول ابن عاشور: العفو مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَا قال تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا} الأعراف: 95، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله. فالانفاق يكون من العفو بحيث لا يكون هناك ضرر ولا ضرار.
فالآية هنا تحدد المقدار في الإنفاق بما زاد عن حاجة الإنسان، في قصد واعتدال، بلا سرف ولا تقتير، وحيث كفى الإنسان حاجته فإن واجبا عليه أن يسمح بما زاد عن هذه الحاجة، فيدفع به حاجة المحتاجين.. إذ كيف يكون الإنسان إنسانا بارّا بإنسانيته، وفى يده فضل مال أو متاع، وفى الناس من أهله وجيرانه، وقومه، من هو في حاجة إلى بعض هذا المال أو المتاع.
إن ذلك التوزيع للمال يدلنا على فلسفة الإسلام في المال حيث أن المال هو مال الله الذي وهبه للإنسان، ومال الله هنا تعني مال المجتمع كله، يستفيد منه كل خلق الله ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ ولكن لما اجتهد وكد بعضهم في تحصيله كان لهم بعض التملك له، على أن يبقى جزء منه في غير ملكهم، يعود للأرض والإنسان التي كونوا بهما ثروتهم، فلم يكن جهدهم فقط هو من كون ذلك المال وتلك الثروة.