كتابات خاصة

واشنطن.. سياسة الديناصورات

في عام 1796، حذر جورج واشنطن مواطنيه من مخاطر السماح “للارتباط العاطفي” بدولة أخرى بالتأثير على السياسة. لكن يبدو أن إدارة بايدن تذهب بعيداً عن هذا التحذير!

في اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أعلن البيت الأبيض دعماً “أعمى” وغير مشروط للإسرائيليين؛ بعث وزير خارجتيه “بلينكن” ليقول إنه وصلها كيهودي وليس كرئيس للدبلوماسية الأمريكية. الرئيس ذاته خرج يقول “أنا صهيوني ودعمي لليهود لا يتزعزع”. لقد تبنى المسؤولون الأمريكيون وحتى الصحافة معظم الأكاذيب والدعاية الإسرائيلية. بالتزامن مع سلسلة من ردود الفعل السلبية التي تفتح الطريق بشكل مؤلم “أمام توسيع حرب واشنطن التي لا تنتهي ضد (الإرهاب) التي بدأت في أعقاب 11 سبتمبر”- كما أوضح أندرو باسيفيتش عالم السياسة الأمريكي في مقاله الأخير.

وطول عقود سعت الولايات المتحدة إلى عدم ربط سياساتها الخارجية بالصراع “العربي-الإسرائيلي”. ففي حين مدّت إسرائيل بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي وضعت واشنطن نفسها باعتبارها “وسيط نزيها” ملتزم بتعزيز الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، وتبنت “عملية السلام”؛ وهي عملية مثيرة للسخرية أصبحت مقترنة بفشل الدبلوماسية والمؤسسات الدولية، وأفول نجم شرطي العالم رغم حالة الانكار في دوائر واشنطن.

ولإبقاء تربعها على رأس الهيمنة كانت أمريكا قد حوّلت استراتيجيتها باتجاه المحيطين الهندي والهادئ، ولم يكن الشرق الأوسط ضمن أولوياتها في المدى المنظور؛ حتى جاء السابع من أكتوبر مع العدوان الإسرائيلي على غزة دفعت بالقوات والقطع البحرية بشكل مستغرب للمنطقة، وسيرت جسر جوي عسكري لا يتوقف إلى إسرائيل. وهي تعتقد أنها ستمنح النجاح لدبلوماسية بلينكن المثيرة للشفقة وكأنه كسينجر الجديد!

ولا يمكن مقارنة الدبلوماسية الخرقاء الحالية، بالدور الذي لعبه كيسنجر – رغم أنه لم يكن لصالح العرب. إذ كان ينظر للخريطة الاستراتيجية الأكبر، بينما ينظر بايدن إلى صهيونيته وبلينكن إلى يهوديته. بل إن البيت الأبيض يستخدم سياسة السوفييت في الحرب الباردة، حيث استبعدوا أنفسهم كوسطاء محتملين لقضايا الشرق الأوسط بسبب ردود فعلهم السلبية. وهي أخطاء استخدمها كسينجر لإيهام الزعماء العرب أن الولايات المتحدة وحدها القادرة على تقديم التنازلات الإسرائيلية، وأن الثمن ــ السلام مع إسرائيل والانفصال عن الفلك السوفييتي ــ يستحق العناء لأجل الاستقرار والتنمية في المنطقة! وبالفعل أخرج مصر من الفلك السوفيتي وانتج اتفاق “كام ديفيد” ثم أوسلو الذي دفن الوعود الأمريكية بمنح الفلسطينيين بلداً مقابل اعترافهم بإسرائيل!

لذلك لم يعد لدى الأمريكيين ما يقدمونه للعرب، ودعاية واشنطن لم تعد صالحة، فليست وسيطاً نزيها، ولم تعد القادرة على تحقيق “تنازلات إسرائيلية” بل أصبحت طرفاً في الحرب. لأجل ذلك فلم يكن مستغرباً ظهور العرب بعيداً عن واشنطن، وهي نتاج تحوّلات سبعة عقود من علاقاتها مع دول المنطقة، حيث تتعامل واشنطن مع جيل أكثر حزما وثقة من قادة الخليج الذين كانوا يحوطون علاقاتهم ليكونوا أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة. وهو أحد العوامل التي جعلت الرياض وأبو ظبي أقرب إلى روسيا والصين في السنوات الأخيرة.

ومع حرب غزة ظهر الحزم الدبلوماسي الإيجابي لدول الخليج –السعودية وقطر على وجه خاص- وتأثيره في العالم الإسلامي، والتوسط في القضايا ذات التأثير الكبير على المنطقة بعد عقود من تأثير غربي منفرد على السياسات الإقليمية. وهو يأتي ضمن موقف عربي أظهر أنه لا يقف على الهامش ويستطيع التأثير في مجلس الأمن وقيادة الدول الإسلامية للتوحد حول مبادئ واحدة تدعم القضايا العربية. وتم تجريد البيت الأبيض من نفوذه في الأمم المتحدة، فلم تجد واشنطن بجانبها في تصويت الجمعية العمومية إلا دولاً مجهرية مثل ميكرونيسيا وتونغا؛ والتف المجتمع الدولي حول العالم الإسلامي وروسيا والصين التي يروج بايدن أنها تسعى لإنهاء “النظام القائم على القواعد”.

ولتأكيد السخرية من “النظام القائم على القواعد” ردت إدارة بايدن منذ السابع من أكتوبر بإرسال المزيد من القوات والقطع البحرية إلى البحر الأحمر وشرق المتوسط، في عمل عسكري أحادي دون اعتبار لمجلس الأمن ولدول المنطقة وحلفاءها التقليديين بما في ذلك الأوروبيين؛ في وقت تجرف المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل. فرفضت الدول المطلة على البحر الأحمر الانضمام إلى “عملية حارس الازدهار” فيما رأى الأوروبيون أنهم لم يعودوا قادرين على الانخراط في حماقة حرب جديدة في الشرق الأوسط بعد الهزائم بقيادة الولايات المتحدة من العراق وحتى أفغانستان؛ فرد الفعل السلبي دون ملاحظة الفروق الدقيقة يجد العواقب أمامه.

 وكما أوضح جورك كينان في “نقد الديناصورات”، فإن الولايات المتحدة تتخذ قراراتها في فورة غضب وعاطفة دون تمييز في الفروق الدقيقة بما فيها مصالحها “ديناصورات تتجاهل كل شيء لفترة طويلة بشكل خطير”. وتقدم سياسة الديناصورات في غزة، مع موزانة جديدة للدفاع وقعت الأسبوع الماضي بقيمة 886 مليار دولار، أي قرابة التريليون، خيالاً لديناصور الحرب الأمريكي وهو يتجاهل كل شيء عائداً إلى الشرق الأوسط، ولم نلمس منه منذ ثلاثين عاماً سوى الدمار.

ونظرياً فإن جر الولايات المتحدة إلى حملة صليبية جديدة في الشرق الأوسط سوف يكون قمة الحماقة. إلا أنه وفي ظل قدر ضئيل من الاهتمام العام وإشراف أقل من جانب الكونجرس، فإن هذا هو على وجه التحديد ما قد يحدث. ففي محاولتها لاستيعاب حرب غزة، وفقدان ثقة المنطقة والعالم بها في حرب غزة، تبدو أمريكا مع عودة للحرب في الشرق الأوسط بطريقة جديدة يحتمل أن تكون كارثية، وهي طريقة قد تساعد في حملة إعادة انتخاب دونالد ترامب، الجمهوري الشعبوي الأكثر غروراً بـ”أمريكا أولاً” وأسهل قراراته هي الحرب، لكنها لن تخدم إلا ظهور عالم متعدد الأقطاب.

تؤكد سياسات الولايات المتحدة خلال العقد الأخير أن الإمبراطورية المهيمنة تتحول إلى اللون البني مثل رأس خس قديم، فهي منهكة سياسياً، ومنقسمة للغاية، ومختلة وظيفياً، وفاشلة في الاحتفاظ بالحلفاء، إلى حد لا يسمح لها بالازدهار في عالم تنافسي.

ويقول أندرو باسيفيتش إن تحذير جورج واشنطن -الذي ابتدأنا به المقال- “لا يزال صالحا حتى يومنا هذا. إن حرب غزة ليست ولا ينبغي أن تصبح حرب أمريكا”؛ واتخاذ مسار حرب جديدة في الشرق الأوسط يفقدها الحلفاء التقليديين، ولم تكن الولايات المتحدة قوية إلا بتحالفاتها، عندما تفقد ذلك ينتهي احتكارها قيادة العالم، لصالح عالم تنافسي متعدد الأقطاب!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى