كتابات خاصة

عودة الذات

محمود الحافظي

على أحدنا – كثيرا – أن يتخلى عن ذاته، يحضّر عدته المعرفية التي يهدرها دوما على قراءة الآخرين، يحضّر ذاته القديمة كي لا تتدخل في مجريات الأحداث. وهي العودة الأولى، العودة التي لابد منها، والعودة التي ينبني عليها ميلاد إنسان جديد هو أنت فعلا.. سيرة حياة كل فرد منا هي مجموعة من سير حياة الآخرين، نحن منتج على الأغلب، تتشابك وتتشارك في توليفه مجموعة ضخمة من المتغيرات ليس من بينها هو ذاته!
المسلمات، طرائق التفكير والنظر، الأحكام، السلوك، حتى متى نبكي ومتى نضحك، كل هذه صيغت لنا بمرور الزمن وعبر جينات موروثة ومن خلال بيئة عشناها في أهم أيام العمر، فرضعنا منها كل تلك التي جعلتنا نحن! الأغرب حين لا ننتبه لكل هذا! يمشي أحدنا مثقلا بذاته، ولا يدري أنه مثقل بوهم كبير، بفاجعة، إنه ليس هو فعلا!!
أسوأ المقالب التي ابتلعناها هي ذواتنا، ذلك أننا اعتقدنا أننا بنيناها طيلة ما مر من عمر، وحين المراجعات الجادة تنكسر ثقتنا الفائتة، ونبدو أكثر هشاشة مما كنا نظن.. الجينات تغزوك ببعض ذوات الآباء والأجداد، الطفولة تجعلك نهبا لكل اختيارات الأقارب والأباعد، المراهقة تسلمك للأصدقاء والنجوم، وبعدها وخلالها تقع تحت طائلة المنتجات الثقافية من مختلف المشارب، وخلال هذا العمر من التشكل لم تكن أنت، إلا حين كنت على أتم “الانتباه” لما يسكنك ومن ثم يظهر فيك، وعنك، ومن ثم يصبح أنت.
حين تطالع ما تبوح به الأبحاث في علم النفس مثلا تعرف كم أنت لست أنت، الأفعال تؤثر في الأفكار بغير وعي، الأفكار تؤثر في الأفعال بغير وعي، اللغة تؤثر في الأفكار والأفعال بغير وعي، الجمهور يؤثر في الفرد، الفرد يؤثر في الفرد، الجغرافيا تؤثر في الفرد، القراءة والكتابة تؤثران في الفرد، وكل ما لا نتوقعه يؤثر فينا وفي الغالب الأعم دون وعي منا؛ نحن منتج، وعدم تنبهنا لهذا الأمر لن يغير فيه شيء!.
على أحدنا – كثيرا – أن يتخلى عن ذاته، يحضّر عدته المعرفية التي يهدرها دوما على قراءة الآخرين، يحضّر ذاته القديمة كي لا تتدخل في مجريات الأحداث، ثم يبدأ بتشريح ذاته بما توفر لديه من معايير معرفية، يرى أين ما هو راض عنه، وما تسلل منه خفية، وما تشكل فيه خلقة، وما تسرب إليه تحت سطوة الحضور والكثرة وسواها.. حين يدرك خريطة ذاته تماما، يمكنه بعدها أن يرتب سير ذاته الجديدة مع القديمة، أين يتفق وأين يختلف ولابد أن يتغير، في الأخير لسنا ذواتا كاملة الاختلاف عن كل الآخرين، لكننا ذوات لابد أن تكون لها نكهتها الخاصة، لونها الخاص، تفعيلتها الخاصة، أو حضورها الخاص.
وأن تحقق ذاتك، لهو الفوز العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى