كتابات خاصة

راعي في جبل جرة (6)

أحمد عثمان

عندما غاب صبري عن عم عبده، أحس بفراغ، فصبري ملأ عليه وقته وخلصه من كثير من الهموم والأحزان المصاحبة، وخفف انطوائه مع ذكرياته المختلفة؛ أحس أنه بحاجة إلى صديق يقضي معه الوقت ويستدعيه إلى البيت حتى يعود (صبري). 10
عندما غاب صبري عن عم عبده، أحس بفراغ، فصبري ملأ عليه وقته وخلصه من كثير من الهموم والأحزان المصاحبة، وخفف انطوائه مع ذكرياته المختلفة؛ أحس أنه بحاجة إلى صديق يقضي معه الوقت ويستدعيه إلى البيت حتى يعود (صبري) صاحبه بحث عن (أحمد) فلم يجده، تذكر (عبد الجوبني)، هذا مقاوم شاب ومتميز، بينه وبين (عم عبده) مودة ولو أنها لم تتعمق بقدر (صبري)، سأل عن (الجوبني)، فأخبره كل من سأله: لن تجد (عبده الجوبني)، إلا في المترس.
وصل عم عبده إلى مترس عبد الجوبني، كان يوماً هادئاً.. استقبل الراعي ببشاشة من صاحبه عبده وزملائه، فهو معروف بصديق المقاومة ودعمه وخدماته سابقة.
طرح عم عبده على الجوبني أن بيته مفتوحة وترجاه أن يزوره عندما يكون فارغاً.
ضحك الجوبني، وهو يقول لما أكون فارغ لكن لا يوجد فراغ هنا نحن في مواجهة مستمرة وانا لا اترك مترسي ابدا
عم عبده قصدي لما يكون مش (زامك).
–أنام هنا.. وأستريح هنا يا عم عبده.. شكراً لك على كرمك، أنت مرحب بك في أي وقت، لما يكون عندي استراحة تعال هنا نجلس في المترس أنا وأنت ونتجابر؛ أنت رجل عظيم، كل الناس تحبك.
 — أنا صاحبك أعزمك تجي شاعملك عشاء وأعطيك اللبن ونتجابر 
القائد نبيل: لا تتعب نفسك يا عم عبده الجوبني، لو انتقلت هذا الصخرة سينتقل إلى خارج المترس.
وحكاية الشاب الجوبني معروفة. فهو لا يغادر المترس في كل الأحوال شأنه شأن عدد من المقاومين الذين اُطلق عليهم (جماعة الصخور)، وهم أناس غريبون لا يغادرون متارسهم ثابتون وكأنهم جزء من المكان، ولهذا سموا بجماعة الصخور، يعود لهم الفضل في صد أحرج الهجمات وإفشال كل التسللات الخطرة التي نفذتها كتائب الموت والحسين وما شابه؛ لو تحركت الصخر هم سيتحركون تقريباً!
يؤكد القائد منصور كيف صد مقاومو الجبل هجمات خرافية، ويذكر تحديدا هجمات رمضان الماضي تحديداً يومي 11 ،13 رمضان، فهم أعدوا كل شيء لضمان سقوط الجبل.. نصبوا دبابة في الزنقل غرب الجبل ومدفع ودبابة في الوعش وأخرى في الخمسين، وثالثة في الستين شمال الجبل ودبابة في التحرير وسوفتيل شمال شرق، ودبابة الدمغة جنوب شرق وفي القاهرة مدفع، إضافة لصعود دبابة إلى منطقة (كشار) في مشرعة وحدنان، وكذا مدافع الحوبان ومدينة الصالح.. والكلام للقائد منصور. تخيل مصادر النيران المحيطة على الجبل بهذا الشكل المرعب تنطلق مرة واحدة على موقع الجبل وتحيله إلى كتلة من نار، ثم تتقدم كتائب الموت والحسين التي اقتحت عمران وصنعاء وكانت تحضر في المواقع الحرجة إضافة للحرس العائلي العالي التدريب.. كيف سيصمد أفراد من الجيش الوطني والمقاومة محدودي العدد والعدة أمام كل هذه القوة؟! يقول القائد ماجد.
لولا هذه الروح المختلفة..
 في 11 رمضان، صرح قائد الهجوم بأن الجبل ساقط، وأنهم لن يفطروا إلا في الجبل، وعندما بدأ الجبل بالاحتراق أكد سقوطه وأعلنت قناة المسيرة بحزم هذه المرة سقوط (جبل جرة) مع وعد بنقل صور من الجبل بعد تمشيط الألغام التي وضعها المرتزقة من الكلونبيين وجماعة (….)!!!
يقول القائد منصور: احترق الجبل يومها، ولم يبقِ مكان ميت (يعني لم يحترق).
المكان الوحيد الميت كانت البوابة، لكنهم طلعوا دبابة إلى منطقة منتزه زايد في صبر وضربوها وأصابوا ماسورة الدبابة التي انسحبت إلى الشارع بعد ما حاربت وحدها في كل اتجاه.
 وتحت هذه اللهب، صمت الجبل واستكان ولم يعد حتى يتنفس أو هكذا تبدى لهم، ليدفعوا بكتائبهم الخاصة تحت أقوى تغطية نارية وغير مسبوقة والتي جوبهت بصخور الجبل (الانسان) بروحه المقاوم، وقتل منهم أعداد مهولة من النخبة.
يقول أحدهم ومن تلك المعركة بدأت تعرف مقابر خاصة في المحافظات التي قدموا منها بمقابر (جبل جرة).
يسأل الاستاذ (عبدالرحمن): وكم كان عدد الشهداء في الجبل ليأتي الجواب المحير: الجرحى وصلوا 45 جريحاً تلك الليلة، أما الشهداء فلم يسقط أحد، ولكنهم سقطوا بعد يومين في معركة 13 رمضان حيث سقط خمسة شهداء منهم العقبي والغشم وجرحى منهم قائد الجبل ويوسف زميل الشهيد (العقبي) الذي كان يضرب على رشاش الدبابة ببسالة الصخور، ويؤكد القائد (منصور) مستدركا بأن يوسف لم ينسحب، ولكنه سحب جريحاً. 
–(عم عبده) الذي كان ينصت منتشيا:
 أنا فداء للجبل، صخوره وناسه، صاحبي الجوبني من الصخور أنا حميسك واا عبده، وقام ليقبل رأس عبده الجوبني وزملاءه في المترس وهو يقول: أيوه أنا (حميسكن وفداء عرفكن)؛ وبعدين الناس يقول ايش القوة التي يجعل الجبل بكل هذا الصمود.. خلاص يا عبده أنا بازورك كل يوم، واللبن عليا، والله انكم ترفعوا الرأس.
ذهب عم عبده وعاد بعد ساعة ومعه حليب الماعز وبعض الخبز للجوبني وأصحابه في المترس، قضى وقتا بعد العشاء يتجاذبون الحديث، حتى بدأت (نوبة) الجوبني؛ استأذن عم عبده واعداً بزيارات متكررة.
في الطريق اصطحب عم عبده معه الاستاذ عبد الرحمن أحد المقاومين، يسكن قريباً من عم عبده بعد أن انتهى دوره في الحراسة. سال عم عبده:
 يا استاذ من أي قرية عبده الجوبني؟
 الاستاذ عبدالرحمن: من محافظة إب من جبن، بمجرد سماعه بالمقاومة في تعز حتى قدم بمفرده يسأل عن القائد نبيل الذي سمع عنه كثيراً والتحق بالمقاومة ومن حينها وهو يقاتل بقيادة صاحبه نبيل.. والله في هذا الجبل رجال لا يقدرون بثمن وأخذ يحدثه عن قصص جماعة الصخور وغيرهم من المقاومين ومشاهد لا تصدق من القوة والفداء، منهم عبده الجوبني وعمار وهائل وشداد وسلمان وخلدون، وهم كثيرون هنا بعضهم لا تأبه له، وعندما تعرفهم يكون وجودهم مصدرا للأمان..
في ليلة اليوم الثاني بدأ الهجوم على الجبل بقوة تعذر زيارة الراعي لصاحبه، كانت معركة شرسة وما أكثر المعارك الشرسة التي تحرق الجبل بميات بل بآلاف القذائف والصواريخ يتبعه موجات من المجموعات التي يكن مهمتها الاقتحام الذي ينكسر دوما أمام شباب وصخور الجبل..
 استمرت المعارك وتجددت عصرا..
قبل المغرب وعند هدوء المعارك احتلب عم عبدة احدى غنماته ليقدمه لصاحبه وزملائه من صخور الجبل، أعجبته حكاية صخور الجبل.. عندما اقترب من موقع (الجوبني) قابله (سفيان) قائلا: مبروك عم عبده.
–على مو يابني
— على صاحبك عبده الجوبني 
— ماله
— استشهد.. استشهد
تسمر عم عبده في مكانه.. لاحول ولا قوة إلا بالله
— وين استشهد؟
وين ترى يستشهد (الجوبني)؟ استشهد في مكانه هنا في مترسه الذي اختاره بعناية.. والله انهم كانوا ثلاثة في هذا الموقع، فقط استشهد عبده ونال ما طلبه، لقد صدوا جيشا قسما.. نظر عم عبده حول المترس كانت جثث الحوثيين متناثرة توحي بحجم المعركة وشراسة الهجوم.. عاد مكسورا وهو يردد: يا قهري يا قهري كم من الجبال تغيب في هذا الجبل!
قال الاستاذ عبدالرحمن الذي عاد مع عم عبده:
 أنت مقهور على الجوبني وهو يستحق القهر، نعم كان جبلاً صعد بلا ضجيج ولا أضواء.. هو وأمثاله هنا يصنعون المجد وينيخون التاريخ ويرسمون المستقبل ويصححون مسار الزمن، صدقت أيها الراعي (كم من الجبال تغيب في هذا الجبل). كان الجوبني أحدهم الله يرحمه تصور يا عم عبده قبل ثلاثة أيام عندما شعر الجوبني بالأزمة المتعلقة بالتغذية وحس بمشكلة قلة الأفراد أرسل للقائد نبيل رسالة يقول فيها:
(أنا مستعد أُغطى التبة وحدي بالمقدمة وواحد بالمدخل.. حتى يأتي قدر الله!!)..
 وهذه نموذج الرجال هنا.
– عم عبده: وهذا سر القوة ومفتاح النصر..؟  
 وصل عم عبده والاستاذ عبدالرحمن إلى البيت، اتعشوا فطيرة (غرب) واللبن.. صلوا العشاء ثم قام عم عبده يجهز (البوري) الذي يعتاده ليلياً، كان منهكا وحزينا على صاحبه عبده بالرغم أن حكاية الشهداء ظاهرة متكررة.
بدأ يجتر نفس عميق من (مداعته) وأخذ يقلب (شنطة) الأشرطة التي يغلب عليها أيوب طارش وبعض أغاني أبوكر والآنسي وأناشيدهم الوطنية، هذه المرة أخرج شريطاً عندما فتحه كانت انشودة (برع يا استعمار)
قال الاستاذ عبد الرحمن هذه انشودة معركة التحرير ضد المستعمر الإنجليزي.
عم عبده: هذه كلمات (عبد الله هادي سبيت).
— أيوه هذا معروف من مناضلي حرب التحرير.
العم عبده: هذا صاحبي.
— كيف يا عم عبده شتطلع لي من مناضلي حرب التحرير كمان؟!!
–لا ولا شيء، هذا (هادي سبيت) صاحبي من هنا من تعز، هذا هرب من الصراعات كغيره وعاش بتعز ومات بتعز بعد الوحدة كان طيب وحنون.
عبدالرحمن: معقول؟
–ليش معقول؟ يابني أنت صغير ماتعرفش تعز كانت مأوى كل اليمن، شوف كل قادة التحرير كانوا هنا بتعز وانطلقوا من تعز ولما اتضاربوا هربوا من بعضهم إلى تعز وكانت تعز بيت الجميع حتى العلامة محمد سالم البيحاني هذا أكبر عالم بالجزيرة العربية، هرب من عدن وعاش في تعز وكان يحب تعز وتحبه؛ وأذكر أن رجل الخير “هائل سعيد” الله يرحمه كان يحبه وصاحبه..
 البيحاني الآن قبره بجانب منارة أكبر مسجد بتعز مسجد المظفر قبره معلم من معالم تعز وبركة.. كان صالح ومن أولياء الله.. تعز يابني أم تحتضن كل اليمنيين وما تفرقش؛ الآن تعز تضحي من أجل اليمن والشهداء الذي مروا منها إلى كل اليمن. 
وقبل ما ينصرف الاستاذ عبد الرحمن قال: شاقرأ لك (ياعم عبده) رسالة أرسلها (الجوبني) قبل استشهاده بأيام للقائد نبيل توضح روح ونفسية وقوة رجال المقاومة واسطورة الصمود.
— ايش الرسالة؟
يفتح عبدالرحمن تلفونه ويقرأ رسالة الجوبني لقائده كانت عبارة عن متفرقات شعرية غاية في التعبير على النحو التالي:
أنا يا بلادي من أنين التراب
ومن غضبة الجمر هذا الخطاب
وينزف دم الشهيد المهاب
وتبكي الملايين في مهجتي
……………
أنا يا بلادي الوريث الصغير
عزمت ولن أعلن الانسحاب
سأصنع من صرخة الجائعين
زلازل تدك عروش اليباب
وأُشفي غليل من في القبور
وأفتح للنور مليون باب
ومن دون شعور نهض العم عبده واقفا وهو يصرخ
الله الله الله.. أعدْ أعدْ
وأفتح للنور مليون باب
!!!!!
 هذا هو النصر يا عبدالرحمن، وهذه القوة.. قوة الله الجبار، ومثل هذه الروح لن يغلبها غالب.
–هيا استأذن عم عبده مع السلامة يقول الاستاذ عبد الرحمن.  
—اجلس اسمر اليوم مافيش حتى معارك.
— تمام ننام على الأقل اليوم لنا يومين ما ننامش.
—مودع الله معك.
 بعد خروج الاستاذ عبد الرحمن أخذ عم عبده يجتر الدخان من (مداعته) فتح انشودة (النشيد الوطني) رددي ايتها الدنيا نشيدي.. التي كان مغرم بها.
عندما أنهى الانشودة دخل في حالة صمت مع الليل والقمر والهدوء غير المألوف تلك الليلة الذي كان مصطحبا لشعور بالوحشة فعادت هواجسه ونزعاته الحزينة فوجد نفسه يفتح اغنيته المفضلة عندما يغوص في ذكرياته وأحزانه:
يا من رحلت إلى بعيد
قصر مسافات البعيد
………………..   
…………………يا آخر الإشراق في عمري 
وآخر وجه عيد
كان يستحضرها عندما تحضر أشجانه وأحزانه التي خففها وجود صبري.
كان الهم يفتح ذراعيه والأحزان تهجم مثل الأمواج شعر بوحشة وذكر صاحبه صبري وبسرعة لملم مداعته من (الحوش) ودخل البيت مغلقا عليه الباب وكأنه يهرب من شبح يطارده.
يا الله كم هي الحياة قاسية وضيقة!!
قالها ثم اتجه إلى مصحفه القديم ليقرأ قبل المنام ويطرد من نفسه الضيق.
 أحدهم يدق الباب على غير العادة وبدون سؤال اتجه ليفتح الباب وكانت مفاجئة أن يرى أحمد صاحب صبري.
أهلاً أحمد: الحمد لله على السلامة.. اتفضل  
– أين صبري؟
–صبري يبلغك السلام
ليش ما رجعش معك.. روّح القرية.
— لا ذهب في مهمة خاصة.  
— الله يحفظه هو ومن؟
هو وأصحابه عمار وشداد وشباب من لواء الصعاليك. 
العم عبده: الله ما أحسن وأطهر صعاليكك يا (تعز)؛ وشداد صاحب المسراخ وعمار صاحب خدير أعرفهم، الله ما أحسنهم.. مثل صبري تماما أنتم يا أحمد كل واحد أحسن من الثاني، والحمد لله أنني عشت حتى شفتوكم وعشت معكم.
-بس صبري سيتأخر صح؟
–لا با يرجعوا قريب. 
-اتعشيت.
–ايوه.
–شانديلك لبن. 
عندما صب كاس اللبن قال:
 شوف يا أحمد. صبري قال شرجع بعد يومين، والآن له عشرة أيام صرت أخاف أننا ما حصلوش ولا أبوح له بما كان يطلبه.
يتبع….
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى