إنني أعني عودة الروح إلى الأشياء، فالروح المعروفة تعود علينا كمستقر، الروح المطلوبة هنا تعود إلى الأشياء لتصبح روحنا أقرب لنبع! واحدة من العودات التي لابد منها: عودة الروح.. بيد أنني لا أقصد العودة المعهودة، الروح المكمل للجسد وغذاؤه وما إليه. إنني أعني عودة الروح إلى الأشياء، فالروح المعروفة تعود علينا كمستقر، الروح المطلوبة هنا تعود إلى الأشياء لتصبح روحنا أقرب لنبع! ذلك أن الأشياء بغير روح لم تعد تؤتي أكلها المبغي منها، وإنما غدت تشكل واحدا من أخطر الأوهام المسيطرة على الإطلاق.
العرض الأبرز لموت الأشياء هو توفرها مع انعدام نتائجها! وهذا ما يدعو كثيرين للتساؤل حول الخلل، الروح المفقودة هي الخلل.. وبغيرها فأي شيء لا يمكن أن يقدم في مسيرة الحياة شيء! فعله الوحيد هو تخدير الأحياء بأن ما ينبغي عليهم عمله قد عملوه، وأما النتائج المرجوة التي تحصل فلسبب آخر يدرجه البعض ضمن الابتلاء ويدرجه آخرون ضمن النقص الملازم للإنسان والبعض يعتبرونه جزءا من المؤامرة المستطيرة.. وكان الأولى بالجميع السؤال: فأين الروح؟!
النظريات والنماذج والمنتجات والأدوات – وهي المقصود بالأشياء هنا – متوافرة بما يكفي وزيادة، وهي ذاتها التي انتقلت بالبعض جذريا، وتركتنا أسرى تخلفنا رغم وهمنا بتملكها وعدم فاعليتها.. إننا لا نتفاعل كما ينبغي مع روح الأشياء، نأخذها ونتناولها بمقادير مفجعة أحيانا ونظن أننا سنصل، وإذا بها تساهم في تخلفنا أكثر، وتستحيل عندنا من مكونات للانطلاق إلى مخدرات للرضى أو الانكسار أو الكسل والتداعي والقعود!
حيث لا روح فلا غاية، ذلك أن الغاية لابد للوصول إليها من الذهاب في كل الطرق، وضياع طريق يعني عجزا عن الوصول، ولا يجمع بين الطرق كلها غير الروح في الأشياء، فإذا ما فقد شيء ما روحه فهو طريق ضائع، أو جهد ضال للأسف، وبدلا من تكامل الأشياء في سبيل النجاح، تتباعد الوسائل دون إدراك على سبيل الفشل، وتكريسه، والعجز عن إدراك المقتل وبيت الداء.
وها نحن ذا نرى النظريات الأحدث في الإدارة، ووسائل التخطيط الأجد، ووسائل التنفيذ والمتابعة الأفضل، ثم نرى بؤس الواقع الإداري وترديه وتخلفه بل وزراعة التخلف أيضا في وسائل التقدم والازدهار!! ونرى وسائل التواصل الأسرع، وطرقه الأرقى، وتحديثاته الأكثر مواكبة، ثم نرى واقعنا فإذا بنا جزرا معزولة لا الوقت يساعدنا ولا نحن نستغله، ولا المعلومة تنقذنا ولا نحن نستهلكها، ولا التشارك يكاملنا ولا نحن نقترب أكثر.. حين تفقد الروح تصبح الأشياء وسائل تصل إلى نقيض المطلوب منها للأسف!
حين ترى التكنولوجيا إكسسوارا ومظهرا، والمعرفة والثقافة مستهلكا ومسلكا للخلاف والنقاش والادعاء وفقط، وحين ترى البرامج التي وظيفتها التقريب تبعدنا أكثر، والوسائل التي توفر علينا الوقت والجهد تستهلكنا أكثر، والعبادات التي تجعلنا أعلى مجرد أداءات صارمة وأغلال إضافية، والنصوص التي تجعلنا أجمل تحولنا إلى أجلاف وأعداء وربما مجرمين، وحين ترى الشهادات تزداد مع ازدياد الجهل يدا بيد، والكفاءات تزيد مع تكاثر التخلف، حين تجد البحث العلمي اكتفى من كونه حلا لمشكلة ليصبح مشكلة تحتاج إلى حل، والمتعلم الذي يعقد عليه الأمل أصبح مأساة تحتاج إلى إنقاذ، حين ترى كل ذلك فاستدل على الخواء، واعلم أن الروح في واد آخر، ومن أراد المنزل فليبحث عن الروح في كل الأشياء.