الاحتجاجات القبلية في اليمن تبدأ مرحلة جديدة تهدد استقرار الحوثيين
المصدر/ مجلة الفراتس/ من سلمان المقرمي
هدأ دَويُّ المَدافع وبدأ هتافُ الحناجر بهُدنةٍ وَضعَت أوزارَ الحرب بعد ثماني سنوات من الاحتراب في اليمن بين الحكومة المدعومة من التحالف العربي بقيادة السعودية وبين جماعة الحوثيّ المدعومة من إيران. وبدأَت في الوقت نفسه معركةُ التعامل مع القبائل التي اعتمد الحوثيون على كثيرٍ منها لتزويد قواتهم بالمقاتلين في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين؛ معركةٌ غير عسكرية لكنها تفُوق المعاركَ العسكرية في التأثير على مستقبل البلاد. في مطلع فبراير 2024 احتشد الآلاف من قبائل حراز والحيمة الداخلية والحيمة الخارجية وصعفان، المواليةِ للحوثيين في ميدان السبعين بصنعاء، متظاهرين للمطالبة بالقبض على عناصر من سلطة الأمر الواقع الحوثية المتهَمين بقتل أحد أبناء قبيلة حراز على مرأى ومسمع عائلته منتصف يناير الماضي، إثر خلافٍ شخصي في محل ألعاب إلكترونية قِتلةً بَشعةً مزّقوا فيها جسده بأكثر من خمسٍ وستّين رصاصةً أُطلقَت من مسافةٍ قريبةٍ على وجهه والأجزاء العليا من جسده.
عند ارتكاب جريمة ضد قبيلةٍ ما، فإن القبائل تَتخِذّ موقفاً موحّداً كما لو أن كلّ قبيلةٍ عُرضةٌ لتلك الجريمة ما لَم تُبْدِ موقفاً قوياً. لذا احتشدت قبائلُ متجاورةٌ، هي حراز وصعفان والحيمتين، متضامنةً في وجه الاعتداء على أيّ قبيلة. ويبدو أن القبائل المذكورة شعرَت بخدشِ كرامتها إثرَ تلك الجريمة المرتكَبة بحقّ ابن قبيلة حراز، فأظهرَت ذلك الموقفَ الحازم.
في التظاهرة قال الشيخ أحمد شاجع، من شيوخ قبيلة حراز، بأن الجريمة بحق الشاب حاشد النقيب ابن القبيلة “ليس لها مثيلٌ إلا ما يحدُث في غزّة”، مبرِّراً هذا التشبيه بأن الجريمة وقعت عَمداً في صنعاء على يد مسلحين يستقلّون آلياتٍ تتْبَع وزارتَي الداخلية والدفاع في حكومة الحوثي غير المعترَف بها دولياً. ويعمل والد المتهَمين مسؤولاً أمنياً كبيراً في محافظة الجوف شمال شرق صنعاء. وتعهّدَ الشيخُ أحمد بأنه والقبائل التي احتشدت معه لن يتركوا دم ابنهم يذهب هدراً، وسيتبعون كل الوسائل لتحقيق العدالة بما فيها الاعتصام، مذكِّرين قادةَ الحوثيين بأن جماعتهم “لم تكن دولةً إلا بأبناء القبائل”.
كَسَب نظامُ الرئيس السابق علي عبدالله صالح وُدَّ لفيفٍ من القبائل واستغلّها الحوثيون في خدمتهم أثناء الحرب اليوم، بَيْدَ أن تلك القبائل استحالت جبهةً مشتعلةً بالتظاهرات السلميّة الرافضة لسياسات جماعة الحوثيّ. وَضَعَت هذه المظاهراتُ مستقبلَ الحوثيين في اليمن على المحَكِّ؛ لأنه لا مفرَّ من التعامل مع المتظاهرين ومطالبِهم وخَطْب ودِّهم، من غير اللجوء إلى العنف الذي يستثير حفيظة القبائل.
تتزايد المظاهرات في مناطق سيطرة الحوثيين. فقد سَبَق تظاهرةَ قبائل حراز ستُّ تظاهرات منذ بداية سنة 2024، وقرابةُ عشرين تظاهرة قَبَلية ما بين أبريل 2022 وديسمبر 2023. وتشير هذه الزيادةُ إلى تهديدٍ واضحٍ لسلطة الحوثيين، وإلى الضغوطات التي تواجِه القبائلَ المواليةَ لها والتي قد تتحول تدريجياً إلى مطالب بإصلاحاتٍ سياسية.
خلال السنوات الثَمان الماضية لَم تواجِه سلطةُ جماعةِ الحوثي تحديّاً خطيراً داخل المناطق التي تسيطِر عليها كالذي بزغ منذ هدنة أبريل 2022 آنَ أَعلَنَت السعوديةُ وقواتُ التحالف وقفَ إطلاق النار لتسهيل دخول المساعدات والتزمَتْها جماعةُ الحوثي. رأَت القبائلُ جماعةَ الحوثي آنذاك حكومةً مُلزَمةً بخدمة القبائلَ مثلما كانت الدولة الجمهورية تفعل قبل سقوطها بيد الجماعة، وإلا فإن علاقة القبائل بسلطة الحوثي قد تتحول إلى معارضةٍ شديدة. وهذا نهجٌ قَبَليٌّ يقايِضُ ولاءَ القبائل للحكومة بشراكةٍ في الخدمات والمنافع والامتيازات.
كانت العلاقة بين القبائل والسلطة في صنعاء متينةً قبل أن تَسقط بيد الحوثيين. يتجلى ذلك مثلاً في الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، المتوفّى سنة 2007 وهو أحد شيوخ مشايخ حاشد، إحدى أكبر القبائل اليمنية التي كانت تمتلك نفوذاً واسعاً في مؤسسات الدولة منذ عام 1962 وحتى سقوط صنعاء عام 2014. يقول الأحمر واصفاً علاقته بعلي عبدالله صالح ابن قبائل حاشد “أنا شيخه وهو رئيسي”. أثناء حُكم علي عبدالله صالح من سنة 1978 حتى تنحّيه في 2012، سعت الحكومة إلى كسب ولاء القبائل ودمجهم في مؤسسات الدولة والجيش والحكومة. وقد شكّلت القبائلُ جزءاً كبيراً من حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي أسّسه صالح سنة 1983 وهيمَن به على الحُكم طوالَ عقود. وشارَك أبناءُ القبائل في انتخابات مجلس النوّاب تحت لواء الحزب منذ الوحدة بين شطرَي اليمن سنة 1990.
يرى الحوثيون أن التظاهرات غير مبرَّرة، مرتكِزين في ذلك على مبدأ الطاعة المطلَقة لأولي الأمر كما تنصّ قواعدُ الإمامة لدى الزيدية الجارودية، وهو المذهب الذي يتبعه الحوثيون. فالجماعة لا تستمد شرعيتها من الرضى الشعبيّ بل من الإمام المنحدر ضرورةً من نسل الحسن أو الحسين ابنَيْ عليّ. وبيعة الإمام هي بيعة انقياد لا انعقاد بالرضى؛ أي أنّ طاعة الإمام واجبةٌ بكلّ حالٍ ولا يسَع الخروجُ عنها. المستنكِفون عن اتّباع الحوثي هم “كفّار بالتأويل” كما في الوثيقة الفكرية والثقافية الصادرة في صعدة سنة 2012، وهي بمثابة دستورٍ سابقٍ على تحرُّك الحوثيين العسكريّ تُؤكِّد الاصطفاء والعلم والإمامة، وتحتكر العلم والتفسير، مشترطةً موافقة أئمتها.
يوضح عبدالهادي العزعزي، القياديُّ في التجمّع اليمنيّ الوحدويّ ورئيسُ وحدة الدراسات بالمجلس الأعلى للمقاومة الشعبية، أن العلاقة بين الإمامة والقبائل تقوم على مبدأ يرى الإمامَ أقوى من منافسيه، قادراً على تشكيل تحالفاتٍ مع القبائل بناءً على مفهوم “التوازن الاجتماعي الهش”. هذا التوازن يقوم على فكرةِ وجودِ قوّةٍ فائقةٍ تُهيمن وتُدير الهياكلَ الاجتماعية الأخرى لصالحها، مستخدِمةً سلطتَها لفرض نفوذها وتعزيز قوّتها، مما يسمح بالسيطرة العسكرية والاجتماعية ثم توسيع الهيمنة والتغلّب على أي تحدياتٍ منافِسةٍ محتمَلة.
دَشَّن الحوثيون حملتَهم العسكرية للسيطرة على اليمن من جبل مران في محافظة صعدة شمال البلاد سنة 2004. وخاضوا حتى سنة 2010 معاركَ عدّةً انتهت بسيطرتهم على معظم المحافظة الواقعة على الحدود مع السعودية. ومع اندلاع الثورة السلمية سنة 2011، تَوسّع نفوذهم ليشمل صعدة بكاملها، وتمدّدوا في محافظات مجاورة مثل الجوف وحجة. ثم وجّه الحوثيون اهتمامَهم إلى محافظات أكثر أهمّيةً مثل عمران، التي استولوا عليها منتصف 2014، وبعدها تمكنوا من السيطرة على العاصمة صنعاء في سبتمبر من العام نفسه. توسعت سيطرتهم لتشمل معظم محافظات شمال اليمن ما خَلا مأرب وتعز.
أمعَن الحوثيون منذ استيلائهم على السلطة سنة 2014 وحتى الآن في إقصاء عدد من الشخصيات البارزة في الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية بهدف تأسيس بِنيةٍ اقتصاديةٍ سياسيةٍ تعتمِد مصادرةَ الموارد الاقتصادية للنخبة التقليدية في النظام السابق، بما في ذلك المنتمين إلى الطبقة التجارية من كبار شيوخ القبائل وشركائهم. وفي يناير من سنة 2018 أَسّس الحوثيون ما يسمّى “الحارس القضائي”، وهو جهازٌ زُعم أنه أُنشئ للتحفّظ على أموال من يتّهمُهم بالعمالة والخيانة والنفاق، وما ذلك إلا لتعزيز القبضة الاقتصادية للحوثيين.
تقدّم الحوثيون في مارس 2015 نحو تعز ومأرب ومحافظاتٍ عدّةٍ جنوب اليمن، منها عدن التي اتخذتها الحكومة المعترَف بها دولياً مقرّاً لها بعد سقوط صنعاء. ثم تدخّل التحالف العربي عسكرياً في 26 مارس 2015 بناءً على طلب الحكومة مساعدتَها ضد الحوثيين. ونجح التحالف في تمكين الحكومة من استعادة السيطرة على محافظاتٍ جنوبية وأجزاء كبيرة من تعز ومأرب والجوف والحديدة. ومع ذلك آلَ اتفاقُ السويد سنة 2018 إلى جُمودٍ عسكريٍ واسع؛ إذ انْكَفَأت الحكومةُ من الهجوم إلى الدفاع، وتحوّلَ الحوثيون من الدفاع إلى الهجوم. ونجحت الأمم المتحدة في أبريل 2022 بإعلان هدنة بعد إخفاقِ هجومٍ حوثيّ استمرّ سنواتٍ للسيطرة على مأرب، المدينة الرئيسة لإنتاج النفط والغاز.
ثَبَّطت تلك الهدنةُ وتيرةَ التوسّع الحوثيّ في أرجاء البلاد، مما أدّى إلى استنزاف الموارد وحدوث ركودٍ اقتصادي. وعليه استمَرّ توقُّف صرف الرواتب في القطاعات المدنية المختلفة، كما استمَرّ فرضُ ضرائب جديدة. وفي خضمّ ذلك تقلّص الدعمُ الماليُّ للمقاتلين الحوثيين، بما فيهم كثيرٌ من أبناء القبائل الغاضبة، بينما أُطلق العنان للعنصر الهاشمي – أي الحوثيين وهُم سلالة بيت النبي – في الإدارة المدنية للاستفادة من الإيرادات وفرض زكاة الخُمس التي تُعادل عشرين بالمئة من الدخل العام، مما زاد ثروات السلطة مقابل استنزاف المواطنين.
ما إنْ وَطّدت جماعةُ الحوثي أركانَها في صنعاء حتى سارعت إلى تأسيس “مجلس التلاحم القبلي”، معتمِدةً في ذلك على حلفائها من شيوخ وأفراد القبائل، ليكون هذا المجلس هيكلاً بديلاً عن “مصلحة شؤون القبائل” التي أسّسها نظامُ الرئيس السابق علي عبدالله صالح بدايةَ حُكمه قبل أربعة عقود. أُنيطَ بهذا المجلس دمجُ القبيلة في إطار هُويّتها ومعتقداتها ومصالحها، واستُخدِم أداةً لتعيين شيوخٍ جددٍ عِوضَ الزعامات القبلية المعارضة أو العصيّة على الاندماج في بِنية سلطتهم أو التبعية لهم. لم تفشل هذه العملية ولم تنجح، فقد تعثّرت مثلاً محاولةُ الشيخِ أمين عاطف من قبائل حاشد، المعروف بولائه للحوثيين وعدائه لأسرة آل الأحمر، تنصيبَ نفسه شيخاً لمشايخ قبائل حاشد بالرغم من الدعم الذي أجزلته له القبيلة في اجتماع كبير في يناير 2023. بينما نجحت جهودهم في مناطق أخرى كمحافظة الحديدة بمساندة الضغط الحوثي. وتمكنَت سلطة الحوثي من تعزيز مواقع أتباعها من السلالة الهاشمية المنتمين إلى ما يُسمى “جماعة القداسة الإلهية” في مراكز القيادة المحلية، مما أثار تنافساً وتوتراً ملحوظاً بين الشيوخ القَبَليين والمشرفين الحوثيين.
ساهمَت عودةُ أبناء القبائل من جبهات القتال إلى ديارهم في تصاعد حدّة التظاهرات في صفوف الحوثيين، إذ لاحظوا أن القيادات العليا والمشرفين في صفوف الحوثيين قد باتوا في ترفٍ وثراء، بينما لم يحصل المقاتلون سوى على بعض الأسلحة مقابل خسارة كثير من أفرادهم وأقاربهم في المعارك التي خاضوها. فمثلاً أعرب الشيخ عبدالكريم القرعي، وهو مِن أبرز شيوخ قبيلة بني مطر، في احتجاجٍ قَبَلي في يوليو 2023، عن استيائه من إقالة أحد أبناء قبيلته قائلاً: “مَن الذي قاتَل ضد التحالف؟ نحن في بني مطر قدّمنا أربعة آلاف قتيل وعشرة آلاف جريح وهناك كثير من المفقودين والأسرى. ضحّينا برجالنا ودمائنا في كل مكان باليمن. وعلى الدولة أن تختار إمّا إقالة يحيى المؤيدي (مدير أمن محافظة صنعاء) وإما أن تخسر قبائلَ بني مطر”. وأشار شيخٌ آخر من قبيلة عرو بصعدة إلى أن قبيلته قدّمت أكثر من مئة قتيل في صفوف الحوثيين لكن الحوثيين يرفضون الآن إقالة مشرِفٍ عُيّن على القبيلة مع أنه يسيء استخدام سلطته ضدهم ويتجاهل مطالبهم ولا يقدِّم لهم أي خِدْمات، مما يجعل القبيلة على أهبة الاستعداد للثورة على قيادتها الحوثية التي لم تعُد تُثمّن ما بَذَلَته القبائلُ من تضحيات.
سبّبت إشكاليةُ عودة المقاتلين أثناء الهدنة قلَقاً للجماعة، مما حدا عبدَ الملك الحوثي إلى عقد اجتماع مع عددٍ من قادة هؤلاء المقاتلين في ديسمبر 2022، حيث وَعَدَهم بالسعي لإصلاح الأوضاع. وقد اعترف الحوثي في خطابٍ له في الشهر ذاته بأن مؤسسات الدولة التي تحت سيطرته غَدَت في وضعٍ مزرٍ. وعملت الجماعة على معالجة هذه الإشكالية بتكثيف التدريبات والمناورات بالذخيرة الحيّة لسحب المقاتلين من قُراهم والمدن وإعادتهم إلى الجبهات وصرف مستحقاتهم المالية على الجبهة فقط. وقد ظهرت إشكالية عودة المقاتلين عندما حشدهم القيادي في قوات النجدة بمحافظة صنعاء أبو رداد المطري وتوجّه مع أربعمئة مقاتل منهم في آليات عسكرية إلى محافظة الجوف للاحتجاج على مقتل قيادي آخر في الجماعة من بني مطر في الجوف.
كان ظاهرُ احتجاجِ المطري ومن معه حميّةً لابن القبيلة المقتول في الجوف، لكن الهدف الأساس كان استعراضَ قوّته أمام خصومه من قادة الحوثي. يذكر أن سلطة الجماعة عزلت المطري من منصبه لكنها لم تعيّن بديلاً عنه حتى الآن. ولذلك تواجه جماعة الحوثي ضغوطاً داخلية متزايدة، وإن كان ببطء. وفي هذا السياق شنّ الحوثيون هجْماتهم على السفن التجارية الدولية المتوجهة إلى إسرائيل. فهي عمليةٌ ظاهرُها التضامنُ مع غزة وباطنُها منعُ الانفجار الداخلي. شكّلت الهجْماتُ البحرية مخرَجاً مهمّاً مؤقتاً للجماعة من ثورة شعبية ضدهم وفق اعتراف سلطان السامعي عضو مجلس الحكم الحوثي أواخر فبراير 2024، قائلاً إنه “لولا أحداث طوفان الأقصى وقرارات عبد الملك الحوثي بالتدخل فيها لكان الشعب قد أكلَنا” حسبما نَقلت مصادر مقرَّبةٌ منه.
شارك الكثيرُ من أبناء القبائل في ثورة 11 فبراير 2011 على النظام السابق بالتظاهرات والاعتصامات السلمية، لا سيما في ساحة التغيير بصنعاء. وكان المتظاهرون السلميون من أبناء القبائل المقيمة فيما يسمى “طوق صنعاء”، فضلاً عن المناطق المجاورة مثل مأرب والجوف وذمار.
مَنحَت هذه المشاركةُ أبناءَ القبائل وعياً سياسياً واجتماعياً بأهمية الاحتجاجات السلمية في مواجهة أيّ قوّة تستخدم أو تحتكر القوة القهرية المفْرطة، وكيف أن التظاهرات تقيد هذا الاستخدام العنيف للقوة وتحُدّ مِن فاعليته لأنها تستخدم أسلوباً ومنهجاً لم يتعوّد الحوثيون التعامل معه. ويقول أحد الشيوخ إن موقف القبائل التي تُعرف بموالاة الحوثي واضطرّت للتظاهر سيكون حرِجاً إن قمعَتها سلطة الحوثي، وقد يَحدُّها على الانتقال إلى حالة الضدّ.
تُدرِك القبائلُ أنها لا تستطيع منفردةً مواجهةَ الحوثي عسكرياً. ولا يوجد تحالف واسع بينها يمكّنها من الصمود كثيراً في وجه القوة العسكرية الحوثية. وتَعلَم مِن خِبرتها أن عليها إيجاد ساحة صراع لا يجيد فيها الحوثي اللعب والانتصار. وتلجأ القبائل للتظاهر لأنها تضع الحوثي إزاءَ خياراتٍ صعبة، أوّلُها القمع المفْرط، مما يُفقده البعدَ الأخلاقي الذي يتذرّع به أمام اليمنيين وبالتالي يزيدُ نقمةَ القبائل عليه. والخيار الثاني هو التعامل مع المظاهرات بهدوءٍ وتلبية مطالبها، مما سيجعلها تكبر وتنمو طريقاً مثالية لرفع الظلم أو لنَيل الحقوق.
أحدُ شيوخ القبائل الذين تحدثتُ إليهم – ورَفض كغيرِه الإفصاحَ عن اسمه نظراً لحساسية الأمر – ذكرَ أن القبائل تحمل إرثاً تاريخياً من النشاط عند غياب نظامٍ حكوميٍ مسؤول، إذ تتولى القبيلةُ مسؤوليةَ حماية نفسها ومحيطها. وهذا يشمل تأمين الطرق والأسواق، وضمان أمن الناس، وحفظ المنافع المشتركة، وصون طرق التجارة. ويوضّح هذا الشيخُ أن القبائل تضع قواعد ومواثيق تعزِّز الاستقرار لدرء تحوّل المجتمع إلى فوضى. من أجل ذلك تسعى القبيلة إلى ملء أي فراغٍ قد تخلِّفُه الدولة. وفي دراستها “الحَوْكمةُ القَبَليّةُ والاستقرارُ في اليمن” التي نشرتها مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ترى الباحثةُ اليمنيةُ ندوى الدوسري، المتخصصة بشؤون القبائل، بأنه لطالما اعتُمد تاريخيّاً على أعراف القبيلة اليمنية في تنظيم النزاعات وتحقيق العدالة.
لقد عالج العرفُ القبَليُّ النزاعاتِ بين القبائل المختلفة، وبين القبائل وشركات الصناعات الاستخراجية، كشركات النفط، وبين القبائل والحكومة. ونجح هذا العرف في الحيلولة دون نشوب نزاعات على الموارد وخدمات التنمية والأرض، وتمكَّن في مناسباتٍ عدّة من احتواء قضايا الثأر المعقّدة. كما تقول ندوى الدوسري أنه على الصعيد الوطني أثّر الوسطاء القبَليون في تشجيع الحوار السياسي والتوصّل إلى الإجماع بين المجموعات السياسية. وخلال السنوات التي شهدت انسحاب القوات الحكومية، تولّت القبائلُ المسؤوليةَ في المناطق التي انسحبَت منها الحكومة، وأفلحَت في توفير مستوىً معقولٍ من الأمن في مناطقها وعلى طول الطرق الرئيسة التي تربط المحافظات القَبَلية.
يقول أحد شيوخ القبائل الذين تحدثتُ إليهم أنّ هناك شيوخاً كباراً يدعون إلى بناء دولة حديثة، وقد أسهموا على مدار العقود الماضية في مقاومة الإمامة وإرساء أُسس دولة الجمهورية. ويسعى هؤلاء الشيوخ، كما يقول مُحدِّثي، إلى جعل القبيلة دولةً عادلةً يحكمها دستورٌ لا يعرف العبودية. وقد بذلوا جهودهم طوال الفترة التي تعاطوا فيها مع الشأن العام لتفعيل وتطبيق القوانين على الجميع، منادين بإقامة مؤسسات دستورية ترسخ مبادئ المواطنة المتساوية وتحقق التنمية المتوازنة للجميع.
ويرى عبدالكريم غانم، أستاذ علم الاجتماع السياسي في اليمن، أن القبائل لجأت إلى التظاهر لأن القبيلة هي الأصل في تشكيل النسق الاجتماعي المكلّف بالدفاع عن المظلومين، خصوصاً مع انحسار دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في التأثير والقدرة على الحشد والدعم لقضايا المظلومين. من جهة أخرى، نأَت القبيلة بنفسها عن السياسة ولم تعُدْ تُشكّل تهديداً مباشراً للسلطة في صنعاء، بفضل هذه التظاهرات، وأصبحت مؤهَّلةً لتبنّي قضايا المظلومين وضحايا القهر والقمع والاستبداد. وحسب غانم، لا تتركز معظم القضايا التي تدافع عنها القبيلة على المطالب العامة أو السياسية، بل تقتصر على تلك الفئوية، مثل استرداد الأراضي والعقارات التي استولى عليها الحوثيون المتنفذون في محيط صنعاء، أو الاعتراض على الجبايات الظالمة المفروضة عليهم. لكن شيخاً قبَلياً تحدّثتُ إليه ألمحَ إلى أنَّ المطالبَ التي يتبنّاها مع قبيلته، وإن كانت ما تزال ذات سمةٍ حقوقيةٍ خاصةٍ بالقبيلة واحتياجات أهلها، إلا أنها قد تتعدى القبيلة لتدعو إلى إصلاحات سياسية عامة.
شهد العام الماضي محاولة تنظيم اعتصام قبَلي دعَمه مئاتُ الموظفين من القطاع الخاص، احتجاجاً على تصرفات الحوثيين بمداهمة شركةٍ تابعةٍ لأحد أبناء القبيلة. الموظفون الذين فقدوا أعمالهم شاركوا في الاعتصام الذي فضّه الحوثيون بالقوة بعد أربعة أيام. ومع ذلك، هَدّد شيوخ قبائل من الحدا وخولان وحراز وصرف في صنعاء، وآخرون في صعدة، باللجوء إلى الاعتصامات لتحقيق مطالبهم إذا فشلت جهود المؤسسات الرسمية أو الوساطات القبَلية. ثمّة شيخٌ من المطالِبين بإطلاق سراح أحد أبنائهم المحتجَز في سجنٍ حوثي صرّح قائلاً: “سنلجأ للوسائل الحديثة للضغط على سلطة الحوثي لإطلاق سراح ابننا”. وأوضح أن أهم الوسائل المستخدمة في التحريض هي وسائل التواصل الاجتماعي، والوسائل الإعلامية، والتلويح بورقة التظاهر ثم الاعتصام. وأضاف الشيخ: “فشلْنا في إطلاق سراح ابننا لدى النيابة والقضاء”، كما فشلَت المحاولات بالأعراف التقليدية. وقد دفعه ذلك إلى اللجوء للوسائل الحديثة والسلمية للضغط على الجماعة، إذ أكَّد أن سلسلةً من الاتصالات والرسائل تصل إليه للتفاوض عندما يحظى حراكهم القَبَلي بتغطيةٍ إعلاميةٍ واسعة، سواءً عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام التقليدي، أو بالتظاهر في ميدان السبعين. وأشار إلى أن القضايا التي لا تُغطّى إعلامياً، بغض النظر عن أهميتها، لا تجد استجابةً من جانِب الحوثيين لمعالجتها.
أسهمَت الهدنة في إذكاء التظاهرات، فقد بدّدَت الأملَ بخلاصٍ قريب، لا سيما أن جلّ المجتمع اليمني يعتمد على الزراعة المطرية، مما يجعله في حالةٍ دائمةٍ من عدم الاستقرار الاقتصادي.
التقطت السلطات الحوثية إشاراتِ مستوى الغضب في الشارع والنقمةِ ضدَّها، المدعومةِ غالباً من قوىً قَبَلية في صنعاء. وأواخر أغسطس 2023 خطب مهدي المشاط رئيس المجلس السياسي الأعلى، الذي يعادلُ منصبَ رئيس الجمهورية، في مناطق سيطرة الحوثيين بمحافظة عمران معقل قبيلتي حاشد وبكيل، واصفاً الاحتجاجات السلمية المحدودة التي طالبت بالمرتّبات بأنها “تنفيذٌ لخطّةٍ وَضَعَتها السفارةُ الأمريكية مدّة خمس سنوات”. وقاد تلك المظاهرات الشيخُ أبو زيد الكميم، وأيَّدها صراحةً رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام، الشريك في حكومة الحوثي، الشيخ صادق أبو راس. ووَصف المشاطُ من ينجرُّ خلفَ المظاهرات بأنهم “حمقى ومنظِّرون أغبياء ومزاودون يخدمون العدو”.
حضر الشيخ صادق أبو راس حفلَ زفافٍ لأحد أبناء شيوخ قبائل ذمار جنوب صنعاء في أكتوبر 2023 فاضطر المشاط للذهاب بعد يومين فقط إلى الأسرة نفسها ليهنئها بزواج أبنائها بعد موعد الزفاف. ويؤكد مصدرٌ قَبَليٌّ أن المشاط حضر للتأكد من أن العلاقة بين الشيخ صادق أبو راس وشيوخ المقادشة في ذمار لا تستهدف بناء تحالفٍ سياسيٍّ بينهم. وهو بهذه الزيارة يؤكد ما ذكره مصدر مقرّب من الحوثي – رفض الكشف عن اسمه نظراً لحساسية المسألة – أن “مظاهرات الموظفين المنقطعة رواتبهم، واحتجاجات شيوخ القبائل، واقتحام الغرفة التجارية بأمانة العاصمة ومعاداة القطاع الخاص، هي أبرز ثلاث تحدياتٍ تهدّد استقرارَ سلطة الجماعة”.
واجتمع مهدي المشاط في سبتمبر الماضي بشيوخ قبائل محافظات ذمار وصنعاء وعمران وصعدة وحجة، مكرِّراً في اجتماعاته أن أولوياتهم “مواجهة العدوان والحفاظ على الجبهة الداخلية وإصلاح مؤسسات الدولة”. لكنه بالمقابل هدّد بأن “المخالفين للقانون سيتعرضون للردع بالقوات المسلحة”.
ثم أعلن قائد الجماعة الحوثية عبد الملك الحوثي عزمه على إجراء تغييرٍ جذريٍّ في مؤسسات الدولة. وظهرت وقتئذٍ تكهّناتٌ بأن الحوثي ينوي تغيير شكل النظام، بما في ذلك الدستور الجمهوري. لكن مظاهراتٍ شعبيةً واسعةً وغير منظَّمة، جلّها من أبناء وبنات القبائل من جيل ما بعد عام 2000، اندلعت احتفالاً بذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في شوارع صنعاء والحديدة وإب؛ الأمر الذي دفع عبد الملك الحوثي إلى حصر التغييرات التي يعتزم تنفيذها في إقالة حكومته غير المعترف بها دولياً.
“حتى العبيد لا يعاملهم أسيادهم كما تعامِل سلطةُ صنعاء (الحوثيُّ) الشعبَ اليمنيَّ”، هكذا كَتب أحد شيوخ قبائل دهم البارزين الذين لم يتظاهروا بَعْدُ ضدّ الحوثيين، لكنه يستخدم صفحته على فيسبوك لانتقاد الجماعة. ويربط الشيخ هذه المعاملة بالحرب، قائلاً: “كلما توقفَت حربٌ أدخَلونا في حربٍ أخرى، وهكذا منذ سنة 2004″، وهو تاريخ أول حربٍ أطلَقها الحوثي في صعدة. وأردف الشيخ: “توقّفَت حرب التحالف بقيادة السعودية والآن بدؤوا في حربٍ ضد الولايات المتحدة والتحالف الدولي. إننا نريد سلاماً”. تلخِّص مقولةُ هذا الشيخ حالةَ العلاقة بين القبيلة وسلطة جماعة الحوثي من وجهة نظرٍ قَبَلية.
في المقابل قال الشيخ القرعي من بني مطر إن قيادياً في جماعة الحوثيين واجَهه في أحد المواقف بالقول “لا تهددونا يا قبائل بني مطر. نحن لم نخْشَ تحالفاً عربياً من سبع عشرة دولة”. ويلخِص هذا القولُ نظرةَ الحوثي للقبيلة، خاصةً إذا لم تعُدْ مواقعُها مهمّة في ساحات الحرب، أو فقدَت قدرتَها على الحشد البشري لصالح الجماعة.
طوّر الحوثيون سلسلةً من الاستجابات المختلفة للتحديات القبَلية. وهم يتعاملون مع التظاهرات القبَلية حتى الآن على أنها خطرٌ يمكن احتواؤه، بشرط ألّا تشكّل القبائلُ تحالفاً موسعاً قد يهدِّد سلطةَ الحوثيين. وذكر لي شخص مقرّب من الحوثي – طلب عدم ذكر اسمه – أن جهاز الأمن والمخابرات الحوثية حدَّد ثلاثة تحدّياتٍ خطيرةٍ تواجه الجماعةَ منذ الهدنة، متمثلةً في احتجاجات الموظفين المطالبين بالمرتّبات، واعتراضات القطاع الخاص والغرف التجارية، إضافةً إلى التظاهرات القَبَلية. وعَدَّها أهمّ ثلاثة مصادر تهدّد استقرار الجماعة. وتشير استجابة الحوثي لهذه التهديدات، بتعاملها مع بعض التظاهرات والمطالب، إلى أن الجماعة تعتقد إمكانية احتواء هذه التهديدات طالما أن القبائل والشيوخ المحتجّين لم يطوِّروا إطاراً وطنياً سياسياً يتجاوز المنطقة والقبيلة لتنظيم هذه الاحتجاجات.
من الملاحظ أن أكثر القبائل التي تظاهرت سلمياً ضد الحوثي تنتمي جغرافياً إلى طوق صنعاء، وقَبَلياً إلى بكيل ومذحج، على حين قلَّت مشاركة قبائل حاشد. وقد غابت الاحتجاجات جليّاً في بطون قبائل حاشد الرئيسة في محافظة عمران شمال صنعاء، على الرغم من كونها بين أقوى القبائل اليمنية في عهد الجمهورية قبل سقوط صنعاء بيد الحوثي، ولم ينخرط أبناؤها في صفوف الحوثيين. أما الشيوخ الذين قادوا التظاهرات، فليسوا محسوبين حزبياً على حزب الإصلاح، أهم القوى المناوئة للحوثيين؛ أي هيهات للحوثي أن يصِفَهم بألقاب “الوهابية” و”التكفيرية” و”القاعدة” و”داعش” و”المنافقين” كما يَفعل عادةً مع معارضيه من حزب الإصلاح أو التيار السلفي.
ويشتد اللجوء للتظاهر وسيلةً مهمّةً في مواجهة انتهاكات الجماعة بينما تُفْرِط جماعة الحوثي في ردّها بعنف على أي عملٍ مسلّحٍ لأفراد القبائل في مواجهتها. ولعلّ ما حدث في منطقة رداع القبلية بمحافظة البيضاء في التاسع عشر من مارس الماضي، دليلٌ واضح على ذلك. فقد قام أحد أفراد القبائل بقتل أحد مسلّحي جماعة الحوثي ثأراً لأخيه الذي قتَله هذا الحوثي قبل عامٍ مفلتاً من العقاب. عَمَدَت سلطات الحوثي فوراً إلى تفخيخ منزل المسلّح القَبَلي وتفجيره بما فيه من ساكنين، مما أدى إلى تدميرِ المنزل، وانهيارِ منازل مجاورةٍ، ومصرعِ ما لا يقل عن اثني عشر ساكناً وهُم نيامٌ، وعددٍ من الجرحى. انطلقت في إثر ذلك تظاهرةٌ شعبيةٌ حاشدةٌ في شوارع رداع تهتف ضد الحوثيين في تحدٍّ مباشر لحُكمهم قائلةً “لا حوثي بعد اليوم” و”لا إله إلا الله، الحوثي عدوّ الله”. وهذا تطوّرٌ مهمٌّ في سقف المطالب التي يرفعها المحتجّون القَبَليون. ورغم مواجهة الحوثي للتظاهرة بالرصاص الحيّ وتفريقها بالقوة إلا أنه أقرَّ بالجريمة وتعهَّد بمعالجتها بتعويض ذوي القتلى وتشكيل لجنة تحقيقٍ بما جرى. لكن شيوخ قبائل رداع ومحيطها لم يلتقوا باللجنة كما ادّعت وسائل الإعلام الحوثية، وهو ما يشي بتدني الثقة بحُكم الحوثيين في مناطق سيطرتهم.
هذه العلاقة المعقّدة بين الحوثيين وقبائل المناطق التي يسيطرون عليها ستؤثّر حتماً على مستقبل اليمن. فقد واجه الحوثيون في السنوات الماضية تحدياتٍ كبرى من هذه القبائل، لا سيما بعد التوصل إلى هدنة مع قوات التحالف، علماً بأن هذه القبائل كانت على الدوام ركيزةً للقوة والاستقرار الوطني في اليمن، لتتحول اليوم إلى أحد أهم مراكز المقاومة ضد سيطرة الحوثيين.
تعتمد جماعة الحوثي على مبادئ الطاعة المطلقة حسب تعاليم الإمامة في مذهب الزيدية الجارودية، وهو ما يعقّد جهودها لنيل التأييد الشعبي أو التوصل إلى تفاهمات فعّالة مع القبائل. بالمقابل ترفض القبائل هذه النظرة الإمامية المطلقة، معتقدةً أن التظاهرَ والاحتجاجَ وسائلُ ضغطٍ وتعبيرٍ عن الرفض لأي تعدّيات. ويجد الحوثيون صعوبةً في إدارة خلافاتهم مع القبائل بلا استعمال للقوة، ما وسَّع الشرخ بينهم وبين القوى القبلية، بما فيها تلك التي أمَدَّت جماعةَ الحوثيّ بالمقاتلين. الجديد في الأمر هو أننا بِتنا نرى احتجاجاتٍ تجاوزَت المطالب القبلية المتعلقة بالوضع الاقتصادي إلى المطالبة بتغييرات سياسية أكثر شمولاً قد تهدد في جوهرها مستقبل حُكم الجماعة أو قد تُفاقِم من حِدّة الصِدام بين القبائل والحوثيين إلى درجاتٍ لا تُحمَد عُقباها.